بحث مخصص عن الكتب

Loading

الأربعاء، 19 يناير 2011

الاقتباس النبوي من القرآن الكريم (1)

يتنطع بعض المتدينين اليوم في مسألة الاقتباس من القرآن الكريم ، مدعين بأن ذلك مما يخرق هيبة القرآن ، ويوهن من شأنه في النفوس ... وفي ظني أن هذه الرؤية متنطعة جدا ، وتحمل من الأوهام حمل بعير ، لسبب طبيعي ؛ هو أن المتكلم البليغ إنما يقتبس من القرآن ؛ ليضفي شيئا من مهابة النص القرآني على نصه ، ولن نذهب بعيدا في الحديث عن هذه القضية ، بل يكفينا أن نمثل ببعض الأمثلة من اقتباسات النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن [ كل الأحاديث من السلسلة الصحيحة للألباني ] ، ونحللها تحليلا تناصيا ، محاولين الكشف عن بعض وجوه المفارقة والمماثلة بين عناصر النص المقتبِس والنص المقتبَس منه ، ومن ذلك ما يلي :

أولا : ماورد عن عائشة – رضي الله عنها - قالت : قلت : يا رسول الله ! ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المساكين ؛ فهل ذاك نافعه ؟ قال : لا يا عائشة ! إنه لم يقل يوما : رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين)) . السلسلة الصحيحة - مختصرة (1/ 528).
فالعبارة الأخير ة من هذا الحديث مقتبسة من قوله تعالى حكاية عن إبراهيم – عليه السلام - : {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)} [الشعراء: 82] ، فأين شخصية ابن جدعان المشرك ، من شخصية أبي الأنبياء الحنيفي إبراهيم حتى يقتبس كلامه له ؟
الأمر الآخر هو أن النبي صلى الله عليه وسلم غيَّر بعض ألفاظ النص القرآني ، فاستبدل قوله تعالى (والذي أطمع أن يغفر...) بقوله هو : (رب اغفر ...) محولا الأسلوب البلاغي للنص القرآني من سياق الإخبار والوصف ؛ إلى سياق الإنشاء (الدعاء) .
ماهو الداعي – إذن – لأن يقتبس النبي صلى الله عليه وسلم – كلام إبراهيم الحنيفي، لابن جدعان المشرك؟

مما هو معلوم أنه كانت هناك بقايا من حنيفية إبراهيم في زمن أهل الفترة ، قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن أهل هذه الفترة ابن جدعان ، الذي لم يع هذه البقايا الحنيفية ولا آمن بها كما آمن بها بقية الحنفاء ، فلعل هذا وجه من وجوه دواعي الاقتباس النبوي في هذا الحديث .
أن ابن جدعان كان مضيافا (يصل الرحم ويطعم المساكين) ، وهذا وجه من وجوه الشبه بينه وبين النبي إبراهيم عليه السلام ، الذي كان مشهورا بإكرام الضيفان ، وكيف لا ؟ وهو الذي ابتدر الملائكة فجاء بعجل حنيذ سمين ؟
على الرغم من ذلك يبقى الاقتباس النبوي ذا درجة كبيرة من الانزياح من وجوه أبرزها :
أن الاقتباس النبوي غيَّر الأسلوب من الخبري في القرآن ؛ إلى الإنشائي الطلبي في نصه هو ، وهذا من معالم فصاحته وبلاغته صلى الله عليه وسلم ؛ لأن هذا التغيير يستدعيه المقام – وكلنا يعلم أن أكبر مقاصد البلاغة مراعاة خصائص السياق المقامي والمقالي – فإن إبراهيم كان يتحدث في سياق الثناء على الله تعالى وتعديد آلائه ، التي منها طمعه في غفران خطيئته يوم الدين ، أما الحديث عن ابن جدعان فإنه كان في سياق وصف قِصَر نظر ابن جدعان ؛ وأنه كان كل همه هو تحصيل الشهرة في الحياة الدنيا ، ولم يكن يرفع طرفه نحو الآخرة وأحداثها ، والقيامة وأهوالها ، فلذا لم يلهج لسانه بهذا الدعاء الطلبي ، ناهيك عن تصوره أو الطمع فيه !

أن خطيئة ابن جدعان كانت الشرك بالله تعالى ، وهو لم يتب منها في الدنيا ، ولا طلب الغفران عنها في الآخرة ، بينما خطيئة إبراهيم – عليه السلام – إنما كانت تورية تحتمل الصدق والكذب حين قال (إني سقيم) ... ، فهذا من وجوه المفارقة بين النصين النبوي والقرآني . (يتبع) ...
abuiyad

0 التعليقات:

إرسال تعليق

ترقيم الصفحات